Saturday, April 29, 2006

خانة الديانة

في شهر مارس الماضي أصدرت المحكمة العليا بكندا قرارا مهما بشأن الحريات الدينية. و مؤخرا في مصر صدر حكم يعطي الحق لمعتنقي البهائية إثبات ديانتهم بالوثائق الرسمية و قبل ذلك شائعات عن تصديق الأزهر على وثيقة تتيح التبشير. كما جدد البعض على خلفية أحداث الأسكندرية و الحكم المشار إليه آنفا، الدعوة إلى حذف خانة الديانة من بطاقات الهوية.
فكرت في الأمر مليا. و بعد أن قدرت و فكرت رأيت أن الأمر هزل و لا منفعة فيه إذا تصوره البعض حلا يسهم في تكريس الحرية و تجنب مخاطر التمييز الديني.
دعني قارئي الحصيف أقص عليك أولا ما كان من أمر المحكمة الكندية المشار إليه سابقا. الأحداث بدأت منذ سنوات مضت حين كان الفتى ج -و هو كندي من أصول هندية تعتنق أسرته المذهب الأرثوذكسي لديانة السيخ- يتسامر في المدرسة العمومية مع زملائه حين سقط دونما قصد منه خنجرا مربوطا بحزام. خوفا و حرصا على سلامة زملائه استدعت المدرسة الفتى و والده لتتبين الأمر. أوضح الرجل و ابنه أن معتقدهما الديني يحتم و يفرض على الذكر أن يرتدي كيربان و هو عبارة عن خنجر يزمه السيخ حول الخصر و لا يخلع حتى أثناء النوم- ربما كأهل اليمن و سلطنة عمان- و هذا يمثل أحد المعتقدات و الفرائض الرئيسة في مذهبهم. قررت المدرسة بعد الاتفاق مع والد ج على أن يرتدي الكيربان مع التعهد بمراعاة احتياطات أمن و سلامة من قبيل أن يكون الخنجر داخل غمد أو جراب من الخشب مغطي بالجلد و أن يوثق بشكل جيد بجسده و أن يكون تحت ملابسه. تقبل الأب و ج هذا الاتفاق، لكن الإدارة العمومية للمدارس لم تقر الاتفاق المبرم مع إدارة المدرسة و ألغته متعللة بأنه يخالف نصوص لائحة النظام المدرسية التي تحظر حمل السلاح و أن الخنجر سلاح بغض النظر عن المعتقد الديني ل ج لذا يجب الامتناع عن حمله في المدرسة. و انحاز مجلس الأمناء إلى قرار الإدارة العمومية، فبات على ج أن يختار بين المدرسة العمومية و بين اتباع تعاليم ديانته.
لجأ ج و والده إلى المحكمة التي أصدرت قرارا مؤيدا حقه في ارتداء الكيربان مع اتخاذ احتياطات السلامة اللازمة. مجلس الأمناء استعمل حقه و استأنف الحكم. أصدرت محكمة الاستئناف حكما مخالفا حكم محكمة الدرجة الأولى مؤيدة بذلك مجلس الأمناء و معللة قرارها بأنه رغم أن حرية الدين و التعبد مقررة دستوريا لكنها ليست حرية مطلقة و أنها تتقيد بالقانون طبقا لنص المادة الأولى من وثيقة الحقوق الكندية إذا تعارضت مع حريات و قيم دستورية أخرى و في حالة الكيربان فإنها تتعارض مع سلامة الآخرين فرأت تقديم سلامة الآخرين على حرية الدين.
أخيرا وصل الأمر إلى المحكمة العليا التي أصدرت حكما قمة في المنطق و الحرفية القانونية- متعة حقيقية لهواة القانون و الأحكام القضائية- إذ نقضت المحكمة حكم الاستئناف و باجماع كامل هيئة المحكمة- حتى من قضاة أنا شخصيا اندهشت حين رأيت انحيازهم إلى حرية الدين بهذا الشكل رغم ما هو معروف عنهم من تشدد و محافظة بالغين مثل القاضي "بيني". و رغم الاجماع كانت هناك فروق في التسبيب و الأسانيد و هو مصدر المتعة التي أشرت إليها.
في نقاط ألخص موقف المحكمة تاركا لمن أراد الاستمتاع قراءة تفاصيل الحكم
1: أشارت إلى أن جوهر حرية الدين كاختيار شخصي هو حق الاعلان عن المعتقد جهرا دون عائق و لا خوف من انتقام و كذلك حق اظهار المعتقد الديني بالتعبد و الممارسة و كذا التعليم و النشر. لكن هذه الحرية تعني أكثر من ذلك. إذ تعني هذه الحرية عدم حمل أي شخص على فعل يخالف معتقده و ضميره، آخذين في الاعتبار الحدود التي قد تفرضها اعتبارات الصحة العامة و الأمن العام و الحقوق و الحريات الأخرى.
2: تشمل حرية الدين حق الشخص في الايمان بمعتقده و ممارسة شعائره التي يظهر الشخص إيمانه و تمسكه بها بشكل صادق و خالص و ذلك بغض النظر عن اتفاقها مع العقيدة الرسمية لعلماء و كهنة هذه الديانة أو تلك.
3: حتى تقرر المحكمة أن حرية الدين لشخص ما قد انتهكت فإنه يتعين على المدعي أن يظهر أولا إيمانه الصادق بمعتقده و شعيرته، ثانيا أن يظهر مسلكا غير تافه و لا بسيط قام به شخص آخر حال بينه و بين القدرة على ممارسة شعيرته كما يتطلب معتقده.
4: يجب أن يتبين للمحكمة أن معتقد الشخص جاد غير زائف و لا كيدي.
5: بالنسبة ل ج بعد أن تبينت المحكمة من صدق اعتقاده و ممارسته لمذهبه، التفتت إلى ادعاء إدارة الأمناء من كون الخنجر سلاح يهدد سلامة الآخرين. تساءلات المحكمة عن انطباق ذات المعيار مع المقص و الأقلام و هراوات البيسبول التي قد تستخدم كسلح خطر و رغم ذلك لم يدعي أحد أي حظر لاستخدامها بالمدرسة. فضلا عن ذلك، فإنه لا يتعين على ج أن يثبت إذا كان الخنجر سلاحا أو لا، إذ يكفي أن يثبت أن حمله له هو شعيرة دينية يؤمن بها طبقا للمقدمات التي أشرت إليها قبل قليل.
6: قبول بعض السيخ الآخرين التجاوز و قبول موائمات من قبيل ارتداء خنجر مزيف من البلاستيك لا يعد حجة في مواجهة ج، إذ قد يتشارك الناس في ذات العقيدة و يختلفون في التطبيق.
7: لم تجد المحكمة ما يمنع من القول بأن قرار مجلس الأمناء قد انتهك حرية ج في حرية الدين و المعتقد
8: طبقا لوثيقة الحقوق بعد أن تبين إنتهاك القرار للحرية الدينية فإنه يتعين على مجلس الأمناء أن يقدم دليلا على أن قراره يعد تعديا معقولا و يمكن تبريره في ظل القيم التي تحكم مجتمعا حرا و ديمقراطيا. لذلك يجب أن يدلل مجلس الأمناء أولا/ على أن الغرض من المنع مهم بشكل كافي لتعليل مخالفته حقا دستوريا، ثانيا/ أن تكون وسيلة المنع مناسبة للغرض من المنع و أن تحمل أقل قدر ممكن من التعدي على الحق الدستوري.
9: لا شك أن حماية الآخرين و حفظ سلامتهم غرض هام قد يعلل تجاوز حقوقا دستورية في ظروف ما. لكن المحكمة تتساءل عن درجة السلامة التي تبتغيها الإدارة. اتفق الجميع على أن السلامة المطلقة أمر بعيد المنال. و انتهت المحكمة إلى أن الغرض هو تأمين قدرا يتجاوز الحد الأدني من السلامة.
10: تساءلت المحكمة عن العلاقة بين الغرض- سلامة الآخرين- و بين القرار الذي يحظر على ج ارتداء الكيربان-خنجر- و انتهت المحكمة إلى أن هناك علاقة منطقية بين حظر ارتداء الخنجر و بين الغرض.
11: ثم اعتنت المحكمة بالوقوف على الجزء الثاني من اختبار الملائمة- بين الغرض المطلوب و القرار المتخذ- لتحديد ما إذا كان التعدي على الحق الدستوري -حرية الدين- يمكن تعليله في ظل نصوص وثيقة الحقوق. إذ يجب أن يكون التعدي أقل ما يمكن، فيكون المنع على القدر الموائم لحفظ الغرض و الحق الدستوري على السواء. و تنتهي المحكمة إلى ما يعرف بالتسوبة أو التكييف المناسب. في حالة ج لم تقدم إلى المحكمة أدلة تفيد جنوح ج إلى العنف و لم تسجل من قبل حوادث عنف مدرسية استخدم فيها الكيربان. فضلا عن أن التزام احتياطات السلامة التي قررتها المدرسة و أيدتها محكمة الدرجة الأولى تحفظ الغرض المرجو و هو حماية و سلامة الآخرين و عمدت المحكمة إلى الإشارة إلى سوابق تتعلق بالكيربان في ظروف أخرى- كالطائرة مثلا-
12: أخيرا، رأت المحكمة أن القرار الذي يمنع ارتداء ج للكيربان بشكل مطلق لا يعد تعديا بسيطا على حقه الدستوري و أن جهت الإدارة لم تقنع المحكمة بملائمة قرارها لغرض حماية الآخرين. إذ قررت المحكمة أن الحظر المطلق لارتداء الكيربان يقوض قيمة الشعائر و الرموز الدينية و يبعث رسالة إلى الطلاب تقول أن بعض الممارسات الدينية لا تستحق الحماية مثلها مثل الديانات الأخرى. في المقابل السماح ل ج بارتداء الكيربان مع مراعاة بعض الاحتياطات الضرورية يوضح مدى العناية التي يوليها و الأهمية التي يعطيها المجتمع للحرية الدينية و حماية الأقليات. و ترى المحكمة أن مضار الحظر الكامل تفوق منافعه، لذلك قررت المحكمة بطلان قرار محكمة الاستئناف المؤيد لقرار مجلس الأمناء و ذلك يعني اقرار حق ارتداء الكيربان مع مراعاة الاحتياطات الضرورية.

بعد هذا العرض، ماذا عن مصر و خانة الديانة. مصري – مسلم سني، مسلم شيعي، مسيحي من طوائف شتى، يهودي من القرائيين أم من الربانيين، بهائي أو حتى على الحدود أو خارجها؟ أعتقد أن الدستور يكفل ذات الحق للجميع- حرية الدين و المعتقد-نعم الاسلام المصدر الرئيسي للتشريع كما ينص الدستور. لكن المبدأ الأول في الاسلام يقول صراحة بأنه لا إكراه في الدين. القانون و الدستور لا يطالب المسلمين بأن يتفسحوا في المجالس و أن يجعلوا للبهائيين أمكنة داخل العقيدة الإسلامية و لم يطلب البهائيون ذلك. ما أريد أن أقوله أن المعتقد لا علاقة له بالقانون. الأديان تقر بعضها أو تكفر بعضها هذا أمر، لكن دولة القانون و هي تشمل مواطنيها ترعى أمرين تقرهما جميع الأديان و تتفق عليهما ألا و هما الحرية و العدل. و مؤدى ذلك أن الجميع أمام القانون سواء.
إذن نحتفظ بخانة الديانة؟
لعلي أوضح بداية أني لست مع أو ضد خانة الديانة في بطاقات الهوية المصرية. بيد أني أنظر إلى المسألة بعين المنفعة و الحكمة. خل أننا لم نذكر خانة الديانة و تقدم الأستاذ محمد عبد الله إلى الأستاذ رامي بطرس في مصلحة عمومية بطلب لقضاء مصلحة ما. خل أن الطبيبة كريستين ناصف يأتي الدور عليها في الترقية و ملفها على مكتب الدكتور أحمد عبد الرحمن. هل سيخفى على الأطراف أديان بعضهم بعضا؟ هل سنمحي الصلبان و ننزع أغطية الرأس حتى نخفي انتمائنا الديني؟ هل سنكتم المآذن و نكمم الأجراس؟
أريد أن أقول، أن القانون قد يقدم حلولا لكنه ليس عصا سحرية و لا وصفة من عند أمهر العطارين لحل مشكلات تتجاوز القانون إلى مساحات أخرى دفينة داخل النفوس و العقول. في الوضع الحالي أرى من وجهة نظر رجل القانون أن الدعوى لإلغاء خانة الديانة لا تقوم على سند قوي و إنما هي دعوى تحركها مشاعر و أحاسيس غير موجهة تخطئ الهدف المطلوب.
الأولى أن نعنى بمشروعات قوانين تكرس الحريات و العدل للجميع و تبعث روح التعايش السلمي بدلا من اجراءات لا تقدم و لا تؤخر.

Thursday, April 27, 2006

وزارة العدل

تعقيبا على مدونة سابقة أرسل محمد تساؤلا عن دور وزارة العدل و ها أنا ألبي طلبه مفردا للرد على تساؤله هذه التدوينة.
بداية يجب أن نضع بعين الاعتبار الأدوار المنوطة بكل واحدة من السلطات الثلاثة: التشريعية و دورها الأساسي اصدار القوانين، التنفيذية للقيام بتنفيذ القواعد التشريعية و السهر على إجابة مهام الدولة الأساسية، أخيرا القضائية و هي تختص بالفصل في النزاعات و اعلان التطبيق الأمثل للقانون الموضوع.
ثانيا، يجب أن يكون واضحا أن اختصاص كل سلطة بمجال ما لا يعني أنها تكون جزرا منعزلة عن بعضها البعض. إذ أن مساحة التماس بين السلطات أمر حتمي و تدركه التشريعات و النظم القانونية فتنظمه بأشكال مختلفة نتيجة اختلاف المعطيات الفلسفية و التاريخية و التنطيمية لكل حالة.
ثالثا، ثمة فارق بين النص القانوني و التطبيق يتعين الالتفات إليه. قد يصمت القانون فتجد كل سلطة حريتها في بسط أطرافها كما يحلو لها. و قد ينظم القانون التماس بين وظائف و مهام السلطات على نحو مبهم يتيح تعدي الواحدة على الأخرى. أخيرا في نظم قائمة ربما ينظم القانون العلاقة بين السلطات، ليس بالضرورة بشكل مكتوب، لكن في هذه الحالة تمارس كل سلطة رقابة ذاتية على نفسها من خلال إدراكها الحسن و السليم لدورها و دور السلطة الأخرى، حتى أنه قد تصير ممارسة هذه الرقابة الذاتية أحد مصارد القانون الدستوري من خلال ما يعرف بالاتفاق الدستوري في النظم الانجلوسكسونية- ربما أفرد له مكتوبا فيما بعد-
آتي الآن إلى الدور الذي تقوم به وزارة العدل. نظرا لقلة المصادر المتاحة لي هنا لم أتمكن من الحصول على وثيقة توضح بشكل رسمي أو شبه رسمي دور وزارة العدل المصرية- للأسف، كثير من المصالح و الوزارات لها مواقع بطيئة التحميل إلى حد كبير و غير مستخدمة بشكل صحيح- لكن لا بأس من النظر في دول الجوار العربي عن اليمين و اليسار للتعرف على دور وزارة العدل، انظر مثلا
وزارة العدل الجزائرية
صلاحيات وزير العدل الجزائري
وزارة العدل اللبنانية
وزارة العدل بسلطنة عمان
وزارة العدل اليمنية
للمزيد
و هذا مثل آخر خلف المحيط وزارة العدل الكندية
قبل الختام، اقتراح الغاء وزارة العدل، يبدو لي أحد المسالك الخاطئة في تناول كثير من القضايا، إذ على شاكلة " الباب اللي يجي منه الريح سده و استريح و صباعي اللي يوجعني اقطعه" نلجأ إلى الإلغاء و الاعتراض و البتر دون أن نحاول تصحيح الأوضاع، فمثلا تجاوزات الشرطة لا تعني الغاء أجهزة الشرطة و الاستغناء عن خدماتها و لكن التناول المتعقل يقتضي استعادة الدور المنوط بها كما تقتضي الحكمة و التفكير السليم.

Saturday, April 22, 2006

ضمانات القضاة

أحيل مؤخرا إلى ما أسمي بمجلس الصلاحية عدد من القضاة و هو أمر لا يزال يثير أراء النخبة و المهتمين بالشأن العام و الشأن القضائي. في مدونة سابقة عددت طرق اختيار القضاة و الابعاد المتصلة بها، و كنت قد وعدت بالالتفات إلى ضمانات القضاة. ها أنا أفعل اليوم خاصة و أن القضاء و هو السلطة الثالثة في أنظمة الحكم الحديثة يعد السلطة الأقل حظا في الحديث و العناية رغم أنها عماد العدل الذي هو أساس الحكم.
لماذا الحديث عن ضمانات القضاة؟
يجب أن ننتبه إلى أن ضمانات القضاة ليست مقررة لأشخاصهم و إنما عني بها طلبا لاستقلال القضاء كمؤسسة يقف ببابها المظلوم مبتغيا اقرار الحق و ارساء العدل و النظام. ضمانات القضاة هي واحدة من صمامات الأمان في هيكل مؤسسات الحكم الرشيد.
إذن ما هي الضمانات التي أقرها القانون للقضاة؟
أولا: عدم القابلية للعزل
لا يجيز القانون فصل القاضي و أو وقفه عن العمل أو احالته إلى المعاش قبل الأوان القانوني أو نقله إلى وظيفة أخرى غير قضائية إلا في أحوال نص عليها القانون.
عدم قابلية القضاة للعزل هي أهم ضمانات القضاة قاطبة بل هي لب استقلال القضاء و جوهره. إذ لا يستطيع القاضي بغير هذه الضمانة إعلاء كلمة القانون في مواجهة الظالم حاكما كان أو محكوما. لذلك نص الدستور المصري في مادته 168 على أن القضاة غير قابلين للعزل و أقرت بالمبدأ على الأقل قوانين السلطة القضائية التي بسطت هذه الضمانة لتشمل جميع القضاة منذ تعيينهم في القضاء.
بيد أن هذا المبدأ تعتريه استثناءات نص عليها القانون مثل جواز عزل القاضي كعقوبة تأديبية طبقا لنص المادة 108 من قانون السلطة القضائية، فضلا عن إحالة القاضي للمعاش متى بلغ السن القانونية أو ما لم يستطع متابعة عمله لأسباب صحية قبل بلوغ سن المعاش، و أخيرا يبيح القانون احالة القاضي إلى المعاش قبل السن القانونية أو نقله إلى وظيفة أخرى غير قضائية إذا ظهر في أي وقت أن القضاي فقد أسباب الصلاحية لولاية القضاء لغير الأسباب الصحية.

ثانيا: يقرر القانون قواعد خاصة بنقل القضاة و ندبهم و ترقيتهم و مرتباتهم و التحقيق معهم و مساءلتهم و محاكمتهم جنائيا. إذ أن القاضي بحاجة إلى ما يحفظ استقلاله و يحميه من نكاية البعض به بنقله وقتما شاء إلى حيثما شاء و كذا حمايته من فرصة استمالة البعض الآخر له. بما للقضاء من مرتبة سامية تتطلب فيمن يتولاه المهابة و الوقار و حسن المظهر حتى يكبر في نفوس الخصوم الجرأة عليه لذلك يحرص القانون على كفاية القاضي ماديا خاصة و أن القانون يحظر على القاضي العمل بالتجارة أو أي عمل لا يتفق و منصب القضاء. و يقرر القانون نظاما ماليا خاصا تمنح فيه للقضاة مرتبات تحفظ كرامتهم و تحمي نزاهتهم.

بالتأكيد هناك تفاصيل كثيرة تتعلق بذلك المبحث لكني ألتفت إلى نواقص عدة تجرح استقلال القضاة و تفرغ المبدأ الدستوري من محتواه و تجعل للسلطة التنفيذية اليد العليا في تقرير قواعد و قوانين استقلال القضاة.
مثلا في جواز احالة القاضي إلى المعاش قبل السن القانونية أو نقله إلى وظيفة أخرى غير قضائية إذا ظهر في أي وقت أن القاضي فقد أسباب الصلاحية لولاية القضاء لغير الأسباب الصحية. إذ يرفع طلب الاحالة إلى المعاش أو النقل من وزير العدل من تلقاء نفسه أو بناء على طلب رئيس المحكمة التي يتبعها القاضي إلى مجلس تأديب القضاة المشكل وفقا للمادة 98 من قانون السلطة القضائية. لاحظ أن الفتك بالمبدأ لا يعجز من تسول له نفسه المساس باستقلال القاضي. إذ جعل الأمر بيد السلطة التنفيذية "وزير العدل" أو حتى قاضي واحد قد يدفعه ترغيب أو ترهيب إلى المساس باستقلال قاض مثله، حتى و إن كان البت في الطلب بيد مجلس تأديب.
عوار آخر؛ يجيز لوزير العدل عند الضرورة أن يندب مؤقتا قاضيا للعمل بأعمال قضائية أو قانونية غير عمله أو بالإضافة إلى عمله. هذا الوضع القانوني الخطير الذي يعد تدخلا مباشرا و سافرا يهدد استقلال القضاة و هو أحد المآخذ المهمة التي يندد بها شيوخ القانون و حكمائه.
ثالثا؛ يحيل القانون في أمور عدة تتعلق بالقضاة إلى مجلس من القضاة يهيمن على شئونهم تغير اسمه و قانونه مرات عدة و كان و لا يزال يثير علامات استفهام كبيرة حول مدى تدخل السلطة التنفيذية في قرارته و أعماله. هذا المجلس في آخر أطواره يسمى مجلس القضاء الأعلى و يشكل برئاسة رئيس محكمة النقض و عضوية كل من رئيس محكمة استئناف القاهرة، النائب العام، أقدم اثنين من نواب رئيس محكمة النقض، أقدم اثنين من رؤساء محاكم الاستئناف الأخرى –غير القاهرة- و رغم تكوينه القضائي فإن العهد بمهمات و صلاحيات هامة تتعلق بالقضاة و القضاء إلى مجلس مكون من 7 أفراد يعين أغلبهم بقرار من السلطة التنفيذية- رغم عدة ضمانات تعاني كثيرا من الهزال و الضمور- لا يحمي بشكل عملي و حقيقي استقلال القضاة و يجعل للسلطة التنقيذية قولا مسموعا و مطاعا في ساحة يجب ألا يكون لها فيها مكان.
خلاصة القول أنه رغم النص دستوريا على استقلال القضاة و عدم قابليتهم للعزل، فإن المشرع و قد حاصرته السلطة التنفيذية بل و تلبست ثوبه بغير حق صارت عباءاتها متعددة لكن مع الاسف تصف و تشف عورة مغلظة توجب تعزيرا شرعيا يردها إلى رشدها و يرد الحقوق إلى أهلها.


لا بأس من الاشارة إلى أفكار و نظم أخرى أعطت القضاة كثيرا فأقاموا عدلا و لم يخافوا لومة لائم، مثلا في كندا يقوم بمهام تتشابه إلى حد ما مع مجلس القضاء الأعلى في مصر مجلس يتعدد أعضاؤه و يبتعدون كثيرا عن تأثير السلطتين الأخرتين-التشريعية و التنفيذية-