Tuesday, February 05, 2013

على هامش الفصل الثالث من المسودة الأولى للدستور


بعد عدة تغريدات على تويتر بشأن الفصل الخاص بالسلطة القضائية بالمسودة الأولى للدستور طلب صديقي أن أعرض رأيي في تدوينة و ها أنا أفعل من باب التفاعل مع المسودة الأولى.

قرأت المسودة و قد جمعت بين المهتم بالشأن السياسي و المواطن المتطلع إلى وطن يتقدم و يعلو و يحقق الحرية و الكرامة و العدالة الإجتماعية و أخيرا القانوني الذي شاءت الأقدار أن يحترف القانون دراسة و ممارسة في غير بلد و نظام قانوني.

أصدقك القول أيها القارئ الكريم أني لمست اجتهادا يبنى عليه و لامست أيضا قصورا يحتاج إلى مزيد من النقاش الموضوعي و التجرد لصالح الوطن بعيدا عن حسابات الانتخابات. ملاحظاتي على المسودة عديدة لكني سألتزم هنا بالتعليق على الفصل الثالث المعنون "السلطة القضائية" بفروعه الأربعة: نظام القضاء و الإدعاء و مجلس الدولة و المحكمة الدستورية العليا.

الفرع الأولنظام القضاء
تصدر استقلال السلطة القضائية هذا الفرع و في ذاك تأكيد محمود ينسجم و مبدأ فصل السلطات بمعيار الدولة الحديثة. كذلك أحمد للنص اشتماله على تجريم التدخل في شئون العدالة مادة ١٧٥

أزعجني و بشدة نص المادة ١٧٦ و هو يشير إلى أن القضاة غير قابلين للعزل. أتفهم ضرورة استقلال القاضي وظيفيا و عدم التأثير عليه لضمان استقامة القضاء و عدالته و بعده عن أهواء الساسة و أصحاب المال. غير أنه في دولة القانون العاملة بمبدأ فصل السلطات و كذا الرقابة و المحاسبة لأي من السلطات و الأفراد فإن النص بهذه الصياغة يجعل من القضاة فوق مستوى المحاسبة و الرقابة و هذا خلل يحتاج إلى علاج.

لننظر كيف رتبت بعض الدول المستقرة هذا الأمر. في كندا نصت المواد ٩٦ و ما بعدها من الإعلان الدستوري عام ١٨٦٧ على كيفية تعيين القضاة عن طريق الحاكم العام و تنص المادة ٩٩ فقرة ١ على أن القضاة يتولون مهمتهم طالما كان هناك حسن سير و لكن يجوز عزل القاضي بعد خطاب للحاكم العام
أمام مجلسي العموم و الشيوخ.
http://laws-lois.justice.gc.ca/eng/Const/page-5.html#h-25


فضلا عن هذا ينظم المجلس الأعلى للقضاء واجبات القضاة المهنية و حسن سيرهم و التزامهم بالقانون و يتلقى في ذلك الشكاوى من العامة أو النيابة أو وزير العدل و يشكل لجنة للتحقيق و قد يصل الأمر إلى عزل القاضي المشكو في حقه.
http://www.cjc-ccm.gc.ca/english/conduct_en.asp?selMenu=conduct_complaint_en.asp

inamoviblesفي فرنسا تنظم المواد ٦٤ و ما بعدها من دستور ١٩٥٨ السلطة القضائية و المادة ٦٤ تشير إلي لفظ و قد يظن البعض أنها تعني عدم القابلية للعزل و هذا غير صحيح إنما الصحيح هو أن اللفظ يعني عدم القابلية للعزل إلا في حالة الخطأ الجسيم و بإجراءات خاصة
http://www.le-dictionnaire.com/definition.php?mot=inamovible

و يعاون رئيس الجمهورية في الشأن القضائي مجلسا أعلى للقضاء و للعامة مخاطبته للشكوى و لك قارئي الكريم أن تراجع كم القضايا و الشكاوي التي يتلقاها المجلس و يبت فيها
http://www.conseil-superieur-magistrature.fr/node/607?m=table_analytique


بالرجوع إلى نص المسودة الأولى في مادتها رقم ١٧٦ نجد أن الصياغة غير منضبطة و قد يحتج القاضي المتخذ ضده اجراء تأديبي أو عزل بعدم دستورية ذلك معتمدا على صيغة المادة المشار إليها. لذا آمل أن يعدل النص و لأهمية الأمر قد يشير إلى آلية العزل أو ضمانة استقامة و عدالة قرار العزل.

السلطة التشريعية ممثلة في نواب الشعب المنتخبين تحاسبها الجماهير في الانتخابات عبر التصويت و تحاسبها قوانين المجلس و لوائحه فضلا عن أن البعض ينادي بآليات أخرى للأسف لم تأخذ بها المسودة الأولى فيما يخص المراقبة الشعبية أثناء مدة التمثيل النيابي. كذلك السلطة التنفيذية تراقبها و تحاسبها الأمة عبر صناديق الانتخاب و الرقابة الشعبية التي أيضا لم تلتفت إلى آلياتها المسودة الأولى للدستور. فإن كان الأمر كذلك بالنسبة للعمودين الأولين من أعمدة الدولة الحديثة و سلطاتها، فإن استقامة الأمر و ضمان التوازن و الاستقلال و المحاسبة و الرقابة يفترض أن يكون هناك آلية لمحاسبة القاضي المخل و بشكل علني و لا يحتجن أحد بالقول أن علانية الحساب إهانة للقضاء بل العكس هو الصحيح و في ذلك ضمان لتحقيق العدالة التي يقف الجميع أمامها سواء و رائدهم في ذاك القضاء.

كنت أود لو أن المسودة أفردت مواد لتنظيم السلطة القضائية من حيث الحد الأدني كما فعلت مع السلطتين التشريعية و التنفيذية. إذ أن المادة ١٧٧ من المسودة أحالت إلى القانون تنظيم القضاء و جهاته و اختصاصتها و طرق تشكيلها و إجراءات التعيين و المساءلة. و على الرغم من هذا التمني إلا أني أتفهم أن الرخاوة و السيولة التي تعيشها أركان الدولة المصرية أملت هذا الأمر و أعتقد أن إحالة الأمر إلى مجلس الشعب القادم يضعه أمام مسئولية عظيمة.

الفرع الثانيالإدعاء

ضم هذا الفرع النيابة العامة التي تتولى الإدعاء العام و النيابة الإدارية التي تتولى التحقيق في المخالفات الإدارية و المالية و ما يرد إليها من الهيئة العليا لمكافحة الفساد ثم أخير مقترح بما يسمى النيابة المدنية لتحضير الدعاوى المدنية و التجارية!

ككرة لهب في هذا الواقع السائل ألقت المسودة الكرة بملعب المجلس التشريعي القادم لتنظيم الإدعاء و نياباته العامة و المدنية و الإدارية. مرة أخرى حسنا أنها فعلت إذا أن هذا الملف يحتاج في رأيي إلى نقاش موسع و برلمان منتخب مفوض في الحديث بإسم الشعب.

ما أستوقفني في هذا الفرع هو مقترح النيابة المدنية و التجارية و هو مقترح مقدم من هيئة قضايا الدولة
http://www.almessa.net.eg/main_messa.asp?v_article_id=1544
المنطلقات غير المنضبطة تدفع بنا إلى نهايات غير منطقية. أزعم أن وضع النيابة العامة التى تتولى الإدعاء نيابة عن الشعب في مصر لم يكن منطقيا و لا مستقيما فأفسد النيابة العامة و أوغر صدور قوم آخرين (النيابة الإدارية و هيئة قضايا الدولة) فصار الأمر مغنما كسلطة قضائية يريد من له فيها و من ليس له منها نصيب أن يستظل بها و يستفيد من مزاياها.

إننا بحاجة إلى إعادة تنظيم هذا البناء الذي يتعهد الإدعاء العام لصالح الشعب و أعتقد أنه آن لنا أن نبتعد عن النظام الفرنسي لأننا لم نطبقه بشكل كامل فأخذنا سيئاته و كفرنا حسناته.
http://fr.wikipedia.org/wiki/Ministère_public_(France)

أزعم أننا سنكون أفضل بفصل النيابة العامة عن القضاء و إلحاقها بوزارة العدل على أن نأخذ لها ما يضمن لها استقلالها و مهنيتها و أجدني أميل إلى التطبيق الكندي في مقاطعة كيبك الذي تضم فيه وزارة العدل عددا من الهيِئات و الإدارات التي تشملها مهمة هذه الوزارة و منها إدارة الإدعاء العام
http://www.justice.gouv.qc.ca/english/ministere/organisation/organism-a.htm#Anchor-Directeu-17913

كما أن النموذج الكندي الفيدرالي لوزارة العدل يقدم حلا متميزا للنيابة الإدارية و هيئة قضايا الدولة أو
.النيابة المدنية كما هو مقترح بالمادة ١٨٠ من المسودة
http://www.justice.gc.ca/eng/dept-min/mandat.html
فعلى مستوى المقاطعة أو الفيدرالية فإن وزارة العدل تضم هيئات تمثيل الدولة في الدعاوى المدنية أو الإدارية.

و في جميع الأحوال لا يعد أعضاء النيابة العامة أو الإدعاء العام قضاة. إذ أنهم محامون معتمدون بنقابات المحاماة و يتقدمون لهذه الوظيفة العامة عبر مسابقات و امتحانات كغيرها من الوظائف.

الفرع الثالثمجلس الدولة
أجد أن مجلس الدولة و قد أخذناه عن فرنسا قد استقام نص المادة ١٨١ من المسودة و كسابقة المسودة في هذا الفصل فقد أحالت إلى القانون تنظيمه للقانون.

الفرع الرابعالمحكمة الدستورية العليا
أحيل هنا إلى ما سبق أن أشرت إليه فيما يخص عدم القابلية للعزل.

كنت قد كتبت مقترحا أرسلته للتأسيسية بشأن تغيير فلسفة الرقابة الدستورية في الدستور الجديد، اقترحت فيه التخلص من المحكمة الدستورية و أن تكون الرقابة الدستورية لقاض الموضوع و ذكرت حينها أمثلة و عددت مزايا الاقتراح.

على كل إذا كان الرأي الذي أخذ به هو الإبقاء على المحكمة الدستورية فإن نصوص المسودة الخاصة بالمحكمة في رأيي سديدة.

ختاما، كمواطن شعرت أن قلة من الساسة تبغي المصلحة الوطنية للأجيال القادمة في كتابة دستور معبر عن المجموع.المهمة كانت شاقة في ظل هذا الاستقطاب الحاد و العداء لهذه التأسيسية التي لي عليها تحفظات لكني أتجاوز عنها في ضوء الواقع الرخو الذي يحول دون التقدم للأمام.
بدت لي عملية صياغة المسودة و كأنها تقسيم كعكة و محاولة أن يصوغ كل فريق و كل طائفة ما يخصه في الدستور. هيئة قضايا الدولة و النيابة الإدارية و المحكمة الدستورية و الجيش و الشرطة و آخرون كل منهم يريد أن يكتب مواد الدستور على هواه.
أزعجني بشدة موقف المحكمة الدستورية اليوم إزاء نصوص المواد الخاصة بها بالمسودة و أرى أنهم تجاوزوا حدهم كقضاة و هذا يدفع بي إلى التأكيد على ضرورة ضبط مسألة عدم جواز عزل القضاة فوراء هذا الساتر غير المنضبط تمترس قضاة و مارسوا السياسة و لا يزالون.

هذا و الله تعالى أعلم